محمود الجندي
من عبد المنصف إلى القصري .. من يتحمل فاتورة «القلق والخذلان» في أجهزة المدن الجديدة
تقع الواقعة ويتشبث الجميع بمقاعدهم.. لا أحد يهتم أو يسأل عن الأسباب أو ماذا جرى لهذا أو ذاك، فلا يهم من يسقط مادام القطار يسير، حتى وإن كانت الضحية صديق أو عشرة عمر، فالجميع يقول نفسي نفسي.
لا أجد تفسيراً لحالة التخاذل في التضامن مع شخص لم تثبت عليه جريمة؟ ولا أجد تفسيراً في التنكر لمن عرفناهم أو صادقناهم أو أكلنا معهم «عيش وملح» أو جمعتنا بهم زمالة العمل لسنوات طالت أم قصرت! لا أجد لها تفسيراً لذلك، كما لا أجد مسؤولاً يتحمل فاتورة حالة القلق التي ضربت كافة قيادات أجهزة المدن الجديدة جراء ما يشاهدونه أمام أعينهم ويومياً من وقائع تقول لهم بوضوح «كل واحد يحمي نفسه» لا أحد سيجري خلفك اذا ما اتهمت زوراً أو تعرضت لأزمة بمناسبة أداء عملك؟
رسائل القلق والخوف هي ملخص ما تلقته القيادات الصغرى من تعامل القيادات الكبرى مع زملائهم في هذه الأزمات.. الجميع قلقون من السقوط في نفس الفخ .. الفخ الذي لا تريد القيادات التصدي له، بل يتركونه لاصطياد المزيد منهم.
كيف يعمل هذا وذاك في ظل شعور دائم بعدم وجود «ضهر يحميه» وهو لم يخطئ، فاذا كان من لم يرتكب جريمة تم التنكر له وشاح الجميع بوجوههم عنه، فما بالك لو كان من سقط في الفخ قد ارتكب خطأ دون قصد أو دون دراية كاملة بأبعاد الخطأ الذي وقع فيه.. ساعتها سيشهر هؤلاء المتخاذلون خناجرهم لذبحه والرقص على جثته طمعاً في المزيد من التأكيد على وقوفهم ضد المخطئ أيا ما كان.
رسالتكم وصلت مشوشة في أزمة المهندس الراحل عبد المنصف الرفاعي رئيس جهاز العاشر من رمضان سابقاً، عندما ترك بمفرده يواجه أمواجاً عاتيه سعى فيها بنفسه وعلاقاته الشخصية لتوضيح تفاصيل أزمة لم يكن مخطاً فيها .. وجد نفسه وحيداً دون ظهر يدافع عنه ويقول انه لم يخطئ.. ومات بعد أشهر معدودة كمداً.. والجميع يعرف كيف كان حاله في الفترة التي أعقبت تلك الأزمة وأن الأمر لم يكن ليمر عليه مرور الكرام بل ظل عالقاً في ذهنه ليل نهار حتى لقي ربه.
عقب تلك الأزمة تحدثت معه كثيرا والتقينا أكثر من مرة.. وفي كل مرة لم أجد أنه نسي ما حدث معه.. ومدى صدمته من موقف هذا وذاك وكيف يترك «ابن الهيئة» وحيداً في موقف لا يحسد عليه.
الرسالة وصلت لكنها لم تكن بوضوحها في أزمة المهندس الراحل محمد القصري رئيس جهاز النوبارية السابق، هنا ولحسابات يمكن أن تصفها بـ«غيرة البعض – قلق البعض» منه أخذت بعداً أخر، بعداً شديد التعقيد بل رأي البعض في أزمته فرصة من السماء للخلاص من صداعه فهو عصياً على الاستئناس، صاحب قرار وصاحب رأي وجريئ بما يكفي..
هنا كانت الرسالة أوضح ومباشرة أكثر.. يا هذا اذا سقطت فلن تجد من يقف خلفك في أزمتك أو حتى لحظة وفاتك إلا قليلاً من الصادقين في محبتك.. فالجميع خائفون وقلقون أو مستريحون لرحيلك المفاجئ فقد وفرت عليهم قلق عودتك والرجوع للمشهد مرة أخرى..
هذا بالضبط ما حدث مع الراحل محمد القصري، كان عنيداً وكرامته قبل كل شئ وهذه مفردات قد تكون مزعجة لكثيرين.. ولذلك عندما سقط في الفخ المنصوب دائماً فرح بعضهم، ولم يسأل البعض الأخر عنه وكأنه لم يكن موجوداً ولو بحكم الزمالة في العمل.. الجميع تنصل من معرفته، بل لم يهتم أحد بالسؤال عنه أو معرفة حقيقة الأمر، وهل الرجل مذنب فيستحق منا اللعنات أم أنهبَريء مما نسب إليه فنقف إلى جواره إلى أن يسترد حقه وكرامته.. الرجل رحل مقهوراً هو الأخر لأن الخذلان وقت الشدة ومن المقربين بحكم العمل هي لحظات بالغة الصعوبة، بل كان التخاذل في الوقوف بجوار أسرته ومنحهم حقوقهم أكثر إيلاماً.. وأزيدك من الشعر بيتاً إنه رغم ظهور الحقيقة وحفظ القضية التي بلا سند أو دليل تقريباً لا يزال الموقف المعادي لرجل هو في رحاب الله قائماً؟!
بل كانت الرسالة قاسية بما يكفي لتكشف الوجه الآخر، وهو أن وفاتك لن تهزنا ولن تجبرنا على تشييعك لمثواك الأخير تعويضاً عن تخاذلنا في الدفاع عنك والوقوف إلى جانبك في محنتك والتي كان سبباً فيها أداؤك لعملك بما يرضي الله.. أي أنك تعاقب مرتين الأولى أنك تعمل باخلاص وتخوض معاركك بمفردك.. والثانية أن تغادر الدنيا دون أن نقف في وداعك من باب الوفاء في حده الأدنى.
وجوده كان دائماً ما يهدد مقاعد الكبار، لكنها شهادة حق نقولها الآن وهو في دار الحق ونحن في دار الباطل، فلم يكن القصري يوماً طامعاً في منصب أو غيره ولو كان طامعاً لنال ما أراد بحجم علاقاته المتشعبة، لكنه كان دائماً ما يؤكد إنه حزين على حال الهيئة، وأنه لطالما نصح صديقة المهندس عبد المطلب عمارة بضرورة إبعاد بعض الوجوه الموجودة حوله فهم ليسوا أوفياء كما يظن وليسوا من اللذين تستقيم معهم الأمور في إدارة المدن الجديدة.
كان دائماً ما يقول أن الهيئة تفضل أن تكون القيادات من حزب السمع والطاعة.. أما أصحاب الرأي والقرار فغير مرحب بهم ولا مكان لهم.
هذا ناقوس خطر ندقه للانتباه.. هذا القلق لم يعد فقط مقتصراً على قيادات أجهزة المدن بل انتقل إلى قيادات داخل الهيئة تحتاج إلى رسائل طمأنة وإزالة الكثير من الألغام الجاهزة للانفجار في وجوههم، وإلا صارت الأمور إلى مالا يحمد عقباه خاصة عندما يقول الكبار «نفسي نفسي».